تقول الكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور ” لا أملك تسليم القيادة إلى عاطفة، كي لا تفتح الباب لهشاشةٍ أجاهد في نفيها”.
عندما نحاول تطبيق هذا الكلام على المجال المهني وعالم الأعمال، سنلحظ أنه يوافق الصواب، ولو بشكل جزئي، ذلك أن منح العاطفة الصوت الأعلى سيُفسد مصالحٌ عدة تبدأ من تعيين أفراد غير أكفياء مرورًا بغياب المساواة المعنوية والمادية بين الموظفين وصولًا إلى إتخاذ قرارات عاطفية مصيرية قد تكون سببًا رئيسًا لإنهيار أركان المؤسسة كافة.
ولكن السؤال: ماذا لو إستغلت المؤسسات هذه الطاقة التي تولدها العواطف لدى قاداتها بطريقة أكثر ذكاءً؟
ربما، من هنا تحديدًا، صار ما يُعرف بالذكاء العاطفي واحد من أهم المهارات التي تقوم عليها المؤسسات الناجحة اليوم فضلًا عن المهارات الصلبة التي يتسلح بها أفرادها، وشواهد التاريخ في ذلك كثيرة ففي عام 2001 تسّلم رجل الأعمال الأمريكي دوغلاس كونانت منصب الرئيس التنفيذي لشركة Campbell Soup المتخصصة في صناعة الأطعمة والمشروبات، وكانت الشركة حينها تعاني من إنخفاض حاد على مستوى الأرباح، حيث خسرت نصف قيمتها السوقية وكانت تكابد أضرار على جميع المستويات خلّفتها سلسلة من عمليات تسريح العُمال القسرية، لدرجة جعلت أحد قادة مؤسسة Gallup الرائدة في مجال التحليلات والإستشارات يصف الييئة في Campbell على أنها أسوء بيئة عمل رأها بين الشركات المُصنفة ضمن قائمة أكبر 500 شركة في الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الإيرادات.
ولمعالجة كل هذه الفوضى، شرع دوغلاس عمله بالتركيز على العنصر البشري والتعزيز من قيمته.. وركّز على التعامل معه كإنسان وليس مجرد رقم قابل للإستبدال أو النفي في أي لحظة.
ومن هذا المنطلق، بدأ مسيرته في منصبه الجديد بتعهد كان يبدو بسيطًا للغاية في ظاهره : ” Campbell valuing people, people valuing Campbell”.. كامبل تُقدّر الناس، والناس يُقدّرَن كامبل. وقد أثمرت رحلة التقدير المتبادل هذه التي دامت عقد من الزمن في تحقيق المبتغى، حيث خرج دوغلاس كونانت من الشركة في عام 2011 تاركًا إياها في وضع مختلف تمامًا لما كان عليه الحال قبل عشر سنوات من ذلك التاريخ، زادت أرباح الشركة وإرتفع العائد التراكمي للمساهمين ونالت جوائز متنوعة نظير تميزها على أصعدة متنوعة.
ولعل إحدى الحقائق التي تقف خلف هذا التحول هو أن دوغلاس طوال هذه المدة أرسل أكثر من 30 ألف رسالة شكر مكتوبة بخط يده للموظفين بمعدل 10 رسائل يوميًا، ليصنع بذلك عامل نجاح يتجاوز المفاهيم المادية والخطط والإستراتيجيات ولغة الأرقام وذلك فقط لأنه رفع شأن الإنسان قبل الموظف.
أمر مشابه تقريبًا فعلته السيدة الهندية إندرا نويي، الحاصلة على المركز الأول لثلاث سنوات متتالية في تصنيف مجلة فورشن لأكثر النساء نفوذًا على مستوى العالم، لكن هذه المرة كانت “اللمسة الإنسانية” مع عائلات الموظفين، حيث إنه فور تعيينها كرئيس تنفيذي لشركة PepsiCo ذهبت لمسقط رأسها في الهند من أجل زيارة والدتها، وقد توافد على إثر ذلك حشد كبير من الأصدقاء والأقارب ليس لتهنئة نويي بنفسها كما كانت تظن بل لتهنئة والدتها وقد كان ذلك الموقف دافعًا لها لكتابة رسائل مخصصة لعائلات الموظفين لديها، ولا عجب أن أسهم الشركة إرتفعت بنسبة 78% أثناء فترة ولايتها التي أيضًا زادت فيها الأرباح من 35 مليار دولار في 2006 إلى قرابة 63.5 مليار في 2017 مع إرتفاع في صافي الأرباح السنوية من 2.7 مليار إلى 6.5 مليار.
ختامًا، صحيح أن الحزم في الإدارة أمر لا مناص منه ولكن الشيء الأهم الذي ينبغي أن يوليه القادة إهتمامًا من نوع خاص هو أن الحزم والصرامة لا يتعارضان مع الذكاء العاطفي أو بشكل أدق مع التعامل الإنساني، لأن إمتلاك هذه المهارة الناعمة لن يجعلك فقط تستوعب مشاعرك ومشاعر فريقك بصورة أعمق، بل يبني لديك معرفة حيال متى يجب أن تكون حازمًا، ومتى يُنتظر منك اللين والرفق لأن العلاقة قبل أي شيء ليست علاقة قائد مع موظف بقدر ما هي علاقة إنسان مع إنسان، وحتى وإن كان هناك دراية لدى الطرفان بوجود مصلحة في المنتصف فهذا لا يمنح صلاحية تأدية هذه المصلحة بأساليب مُنفرّة، وممارسات غير عادلة تفتقر لأبجديات التعامل السّوي أصلًا، الأمر الذي لن يُفسد المصلحة وحدها فقط بحيث يقتصر الضرر على الموظف في حال تسريحه مثلًا بل سيمتد إلى إحتمالية إنهيار المؤسسة تمامًا، خصوصًا حينما نتأمل حقيقة أن مجلة Harvard Business Review المتخصصة في مجال الأعمال ذكرت في تقرير سابق لها أن مجرد “ضعف التواصل” بين القادة والموظفين يُعد بمثابة القاتل الصامت للشركات الكبرى.